العدد الشهري (نيسان/أَپـريل) من الملحق الأَدبي لجريدة “لوريان” اللبنانية الصادرة بالفرنسية، خصَّصه رئيسُ تحريره المحامي والكاتب أَلكسندر نجّار للشاعر الفرنسي شارل بودلير لمناسبة المئوية الثانية لولادته (9/4/1821 – 9/4/2021)، ونشر فيه مقالاتٍ ودراساتٍ قيِّمةً جدًا لكُتّاب لبنانيين وفْرنسيين معمِّقين.
هنا مداخلتي (في نصِّها العربي الأَصلي) عن العلاقة الجدلية بين بودلير وأَبو شبكة، بين “أَفاعي الفردوس” و”أَزهار الشر”.
***
نَظْلِم الياس “أَبو شَبَكة” (1903-1947) حين “نتَّهمه” متأَثرًا ببودلير، وبأَن “أَفاعي الفردوس” (1938) تقليدٌ “أَزهارَ الشر”.
هذه الموجة من التُهَم واجهتْه طيلة حياته، إِذ رأَى البعض في قصائده تقليدَ لامرتين أَو دو موسِّيه أَو ڤينيي، لكنَّ هذا التعميم يظلمه أَيضًا.
صحيح أَن أَبو شَبَكة متشبِّع بالثقافة الفرنسية، كونه درس في معهد عينطورة (كسروان) الفرنسي الثقافة والتدريس، وصحيح أَنه نشأَ على قراءَة الأَدب الفرنسي، وحين شبَّ ترجَم نصوصًا منه إِلى العربية، صدر بعضُها في كتب (أبرزُها كتابه “روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة”- 1945)، وصحيح أَنه ترجَم (1947) كتاب “بودلير في حياته الغرامية” لكميل موكلير، وصحيح أَنه في مجموعته الشعرية الأُولى “القيثارة” (1926)، ترجَم قصائد (حرفيًّا أَو مقتبَسَة) من شعراء رومنطيقيين، وصحيح أَن طبيعته الرومنطيقية تقرِّبه من نزعة الرومنطيقيين الفرنسيين. لكنَّ جميع هذه العناصر تبقى شخصية ذاتَ علاقة خاصة به، فلم تُضطرَّه أَن يقلِّد أَو يتْبع أَو يتَّبِع أَو يشابه.
هو والنقد
كيف تجلَّت هذه التشبيهات عند النقاد؟
منهم من رأَى تَشابُهًا مع بودلير في تَحَرُّق قاهر يَنفثُ السُمّ القاتل في قصائد “غلواء”، حُبِّه الأَول الذي استمر 9 سنوات قبل أَن يَتَتَوَّج بالزواج.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في قصيدة “القاذورة” من “أَفاعيالفردوس” مع قصيدة “الجيفة” في “أَزهار الشر”.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في الجوِّ المتشائم، وما يقابله من الجوِّ ذاته في “أَزهار الشر”.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في وصف الشهوات الجسدية اللاهبة وما يقابلها من أَوصاف شبيهة لدى بودلير.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في المطلق بين الشاعرَين. عند صدور “أَفاعي الفردوس” كتب أَكثر من ناقد عن أَبو شبَكة: “هذا بودلير لبنان”.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في الأسلوب الحاد الناقم بين قصائد “أَفاعي الفردوس” والكثير من قصائد “أَزهار الشر”.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في جَوّ أَبو شَبَكة عمومًا وأَجواء القرن التاسع عشر الرومنطيقي، وفي طليعتها قصائد بودلير.
ومنهم من رأَى تَشابُهًا في مواضيع القصائد بين أَبو شَبَكة وبودلير، وكذلك بينه وبين موسيه وڤينيي ولامرتين.
هذا التشابه أَعلاه، له من يبرِّره ظاهرًا، وفيه من الواقع الشعري الذي ظهر في قصائد أَبو شَبَكة.
سيرة مُغايرة
لكنَّ هذا الواقع المتجلي في قصائد أَبو شَبَكة لم يكن تَرَفًا شعريًّا نظريًّا بل واقعًا عاشه فعلًا في حياته.
فهو وعى في مطلع شبابه (منذ الثامنة عشرة) على جارته في الزوق أُولغا ساروفيم، وجمعَتْه بها قصة حُبٍّ مبْكر ظلَّ “أَفلاطونيًّا عفيفًا” تسع سنوات، تخلَّلَتْها قصائد عاطفية صافية إِلى “غلواء” (قَلَب حروف اسمها من “أُولغا” إِلى “غلواء”). لكن تلك السنوات العاطفية النقية شهدَت توازيًا علاقة أُخرى مع سيِّدة متزوجة في الزوق (روز ساروفيم. سمَّاها “وردة”)، وعاش معها علاقة جنسية بحتة انتهت بإِدراكه الخطأَ والخطيئةَ فانقلَب عليها ساخطًا غاضبًا لاعنًا، وثار على المرأَة/الجسد والمرأَة/العشيقة، وكتب فيها معظم قصائد “أَفاعي الفردوس”، كما كتب بودلير في “أَزهار الشر” قصائد في لعنة الجسد والمرأَة الزانية أَو العاهرة أَو السحاقية.
بعد تسع سنوات الخطوبة مع غلواء (تخلَّلَتها العلاقة الجسدية مع وردة) وبعد زواجه من غلواء، عادت له علاقة جديدة مع مغنية سمراء (هادية) تعرَّف إِليها في بيروت وكانت تغني من قصائده. توطَّدت علاقته بها حتى أَنه طلب من صديقه قيصر الجميِّل أَن يرسمها، وعلَّقَ لوحتها في صدر صالون بيته. وعبثًا طالبه أَصدقاؤُه أَن ينزع اللوحة احترامًا لزوجته أُولغا، فلم يفعل.
وحين انطفأَت علاقته بـ”المغنِّية السمراء” هادية، شعَر أَنه تعِب من النساء، ويَـئِـسَ من أَن يجد الحب الحقيقي الذي ينتظره، فانصرف إِلى الطبيعة، وهي تناسب طبيعتَه الرومنطيقية، وكتب قصائد كتابه “الأَلحان” (1944)، وهي في وصف طبيعة لبنان وعاداته الجميلة ومظاهر أَهله الطيبين.
… وجاءت ليلى !!
على أَن يأْسه من الحب لم يَطُلْ، إِذ تعرَّف سنة 1940 في بلدته “الزوق” إِلى ليلى (لِيلِي العضم) فعاش معها سنوات حب كبير أَثمرَ كتابَين هما أَجمل ما كتب: “نداء القلب” (1944) و”إِلى الأَبد” (1945)، وهما مشبَعان بالعاطفيَّة الرومنطيقية العالية، بعيدًا كُليًّا عن الجحيم والنار والجسد واللعنة والغضب في “أَفاعي الفردوس”.
حالَما عرف الحب مع ليلى، اختفَت لوحة هادية من صالون بيته. أَعادها إِلى قيصر الجميِّل طالبًا منه إِعطاءَها إِلى صاحبتها، ونشر في “إِلى الأَبد” مقطوعاتٍ خمسًا كان كتبها في هادية، كي لا يكتشفَها أَحدٌ بعده ويعتبرَها مكتوبة في عهد ليلى، فيما منذ ليلى لم يعرف أَيَّ امرأَة ولا أَيَّ علاقة أُخرى. انصرف إِلى ليلى نهائيًا حتى انطفأَت حياته على هذا الحب الكبير في 27/1/1947.
سردتُ هذه التفاصيل كلَّها من حياة أَبو شَبَكة كي أَقول إِنَّ الشبَه بعيدٌ بين حياته وحياة بودلير، بين علاقاته النسائية المتعددة (غلواء، وردة، هادية، ليلى) وعلاقة بودلير بــجانّْ دوفال وما تخلَّلها من عواصف ومآسٍ ونهايات مأْساوية لها وله.
يضيق المجال هنا عن سرد استشهاداتٍ من قصائد أَبو شَبَكة ومقارنتها مع قصائد بودلير، لتبْيان الفوارق بينها، أَو تبيان بعض التشابه غير المقصود، لأَن حياة أَبو شَبَكة غير حياة بودلير. إِنما الخلاصة أَنْ كانت لكلٍّ من الشاعرَين حياته التي انعكسَت في شعره، ولا تَشَابُهَ مطلقًا بين حياة الشاعرين.
كلام الصور
رومنطيقية “زوق” أَبو شَبَكة وواقعية پاريس بودلير (بيت أَبو شَبَكة بريشة مصطفى فرُّوخ)
1 : الغلافان الخارجي والداخلي لترجمة أَبو شَبَكة كتابَ “بودلير في حياته الغرامية”
2 : أَبو شَبَكة (بريشة فرُّوخ) وبودلير في لحظة صفاء
3 : “أَفاعي الفردوس” (طبعة 1969) و”أَزهار الشر” (طبعة 1869)
4 : ثقافة أَبو شَبَكة الفرنسية من خلال كتابه